فصل: باب وقف المشاع والمنقول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 كتاب الوقف

‏ ـ ‏هو في اللغة الحبس‏.‏ يقال كذا بدون الف على اللغة الفصحى أي حبسته‏.‏ وفي الشريعة حبس الملك في سبيل اللّه تعالى للفقراء وأبناء السبيل يصرف عليه منافعه ويبقى أصله على ملك الواقف‏.‏ وألفاظه وقفت وحبست وسبلت وأبدت هذه صرائح ألفاظه وأما كنايته تصدقت واختلفت في حرمت فقيل صريح وقيل غير صريح‏ ـ

1 - عن أبي هريرة ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له‏)‏‏.‏ ‏ـ ايراد المصنف لهذا الحديث في الوقف لأن العلماء فسروا الصدقة الجارية بالوقف‏.‏ وقوله ‏(‏أو علم ينتفع به‏)‏ المراد به العلم الأخروي فيخرج مالا ينتفع به كعلم النجوم من حيث أحكام السعادة وضدها ويدخل في العلم النافع تأليف ونشر علم السنة الصحيحة وفقنا اللّه وإياك بما فيها‏]‏ ‏.‏

رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه‏.‏

2 - وعن ابن عمر ‏(‏أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني فقال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق بها عمر أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول‏)‏‏.‏

ـ ‏وفي الحديث فوائد‏.‏ منها ثبوت صحة أصل الوقف قال النووي وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير ويدل عليه أيضا اجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايات اه ومنها فضيلة الإنفاق مما يجب‏:‏ ومنها ذكر فضيلة ظارهة لعمر رضي اللّه عنه ومنها مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير‏:‏ ومنها فضيلة صلة الأرحام والوق عليهم‏:‏ واللّه أعلم‏.‏‏ـ‏ وفي لفظ ‏(‏غير متأثل مالا‏)‏‏.‏

رواه الجماعة‏.‏ وفي حديث عمرو بن دينار قال في صدقة عمر ‏(‏ليس علي الولي جناح أن يأكل ويؤكل صديقا له غير متأثل‏)‏ قال ‏(‏وكان ابن عمر هو بلى صدقة عمر ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم‏)‏ أخرجه البخاري‏.‏ وفيه من الفقه أن من وقف شيئا على صنف من الناس وولده منهم دخل فيه‏.‏

3 - وعن عثمان ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي‏)‏‏.‏

رواه النسائي والترمذي‏.‏ وقال حديث حسن وفيه جواز انتفاع الواقف بوقفه العام‏.‏

حديث عثمان أخرجه البخاري أيضا تعليقا قوله‏:‏ ‏(‏الا من ثلاثة أشياء‏)‏ فيه دليل على أن ثواب هذه الثلاثة لا ينقطع بالموت قال العلماء معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كاسبها فإن الولد من كسبه وكذا ما يخلفه من العلم كالتصنيف والتعليم وكذا الصدقة الجارية وهي الوقف وفيه الإرشاد إلى فضيلة الصدقة الجارية والعلم الذي يبقى بعد موت صاحبه والتزوج الذي هو سبب حدوث الأولاد وهذا الحديث قد قدمنا الكلام عليه وعلى ما ورد مورده في باب وصول ثواب القراءة المهداة إلى الموتى من كتاب الجنائز‏.‏ قوله ‏(‏أرضا بخيبر‏)‏ هي المسماة بثمغ كما في رواية للبخاري وأحمد وثمغ بفتح المثلثة والميم وقيل بسكون الميم وبعدها غين معجمة‏.‏ قوله ‏(‏أنفس منه‏)‏ النفيس الجيد قال الداودي سمي نفيسا لأنه يأخذ بالنفس قوله ‏(‏وتصدقت بها‏)‏ أي بمنفعتها وفي رواية للبخاري ‏(‏حبس أصلها وسبل ثمرتها‏)‏ وفي أخرى له ‏(‏تصدق بثمره وحبس أصله‏)‏‏.‏ قوله ‏(‏ولا يورث‏)‏ زاد الدارقطني ‏(‏حبيس ما دامت السموات والأرض‏)‏ في رواية للبيهقي تصدق بثمره وحبس أصله لا يباع ولا يورث‏.‏ قال الحافظ وهذا ظاهر أن الشرط من كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بخلاف بقية الروايات فإن الشرط فيها ظاهر أنه من كلام عمر‏.‏ وفي البخاري بلفظ ‏(‏فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره‏)‏ وفي البخاري أيضا في المزارعة قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمر ‏(‏تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق ثمره فتتصدق به‏)‏ فهذا صريح أن الشرط من كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا منافاة لانه يمكن الجمع بأن عمر شرط ذلك الشرط بعد أن أمره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم به فمن الرواة من رفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومنهم من وقفه على عمر لوقوعه منه امتثالا للأمر الواقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم به‏.‏ قوله ‏(‏وذوي القربى‏)‏ قال في الفتح يحتمل أن يكون المراد بهم من ذكر في الخمس ويحتمل أن يكون المراد المراد بهم قربى الواقف وبهذا جزم القرطبي‏.‏ قوله ‏(‏والضيف‏)‏ هو من نزل بقوم بريد القرى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏أن يأكل منها بالمعروف‏)‏ قيل المعروف هنا هو ما ذكر في ولي اليتيم وقد تقدم الكلام على ذلك في باب ما يحل لولي اليتيم من كتاب التفليس‏.‏ قال القرطبي جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل لاستقبح ذلك منه والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة وقيل القدر الذي يدفع الشهوة وقيل المراد أن يأخذ منه بقدر عمله والأول أولى كذا في الفتح‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏غير متمول‏)‏ أي غير متخذ منها مالا أي ملكا‏.‏ قال الحافظ والمراد أنه لا يتملك شيئا من رقابها‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏غير متأثل بمثناة‏)‏ ثم مثلثة بينهما همزة وهو اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم وأثلة كل شيء أصله‏.‏ قوله ‏(‏قال في صدقة عمر‏)‏ أي في روايته لها عن ابن عمر كما حزم بذلك المزي في الأطراف ورواه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عمر‏.‏ قوله ‏(‏وكان ابن عمر‏)‏ هو موصول الإسناد كما في رواية الإسماعيلي‏.‏ قوله ‏(‏لناس‏)‏ بين الإسماعيلي أنهم آل عبد اللّه بن خالد بن أسيد بن أبي العاص وإنما كان ابن عمر يهدي منه أخذا بالشرط المذكور وهو يؤكل صديقا له ويحتمل أن يكون إنما أطعمهم من نصيبه الذي جعل له أن يأكل منه المعروف فكان يؤخره ليهدي لأصحابه منه‏.‏ قال في الفتح وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف وقد روى أحمد عن ابن عمر قال أول صدقة أي موقوفة كانت في الإسلام صدقة عمر‏.‏

وروى عمر بن شبة عن عمرو بن سعد بن معاذ قال ‏(‏سألنا عن أول حبس في الإسلام فقال المهاجرون صدقة عمر وقال الأنصار صدقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏)‏ وفي إسناده الواقدي‏.‏ وفي مغازي الواقدي إن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق بالمعجمة مصغرا التي أوصى بها إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فوقفها وقد ذهب إلى جواز الوقف ولزومه جمهور العلماء‏.‏ قال الترمذي لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس وقال أبو حنيفة لا يلزم وخالفه جميع أصحابه إلا زفر‏.‏ وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال لو بلغ أبا حنيفة لقال به‏.‏ وأحتج الطحاوي لأبي حنيفة بأن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم حبس أصلها لا يستلزم التأييد بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره قال في الفتح ولا يخفى ضعف هذا التأويل ولا يفهم من قوله وقفت وحبست إلا التأييد حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها حبيس ما دامت السموات والأرض‏.‏ قال القرطبي راد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه انتهى‏.‏ ومما يؤيد هنا ما ذهب إليه الجمهور حديث ‏(‏أما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل اللّه‏)‏ وهومتفق عليه وقد تقدم في الزكاة ومن ذلك حديث أبي هريرة المذكور في أول الباب إن قوله ‏(‏صدقة جارية‏)‏ يشعر بأن الوقف يلزم ولا يجوز نقضه ولو جاز النقض لكان الوقف صدقة منقطعة وقد وصفه في الحديث بعدم الإنقطاع‏.‏ ومن ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏لا يباع ولا يوهب ولا يورث‏)‏ كما تقدم فإن هذا منه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيان لماهية النحبيس التي أمر بها عمر وذلك يستلزم لزوم الوقف وعدم جواز نقضه وإلا لما كان تحبيسا والمفروض أنه تحبيص ومن ذلك حديث أبي قتادة عند النسائي وابن ماجه وابن حبان مرفوعا ‏(‏خير ما يخلفه الرجل بعده ثلاث ولد صالح يدعو له وصدقة تجري يبلغه أجرها وعلم يعمل به من بعده‏)‏ والجري يستلزم عدم جواز النقض من الغير ومن ذلك وقف أبي طلحة الآتي‏.‏ وقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم له ‏(‏أرى ان تجعلها في الأقربين‏)‏ وماروى من حديث أنس عند الجماعة أن حسان باع نصيبه منه فمع كونه فعله ليس بحجة قد روى أنه أنكر عليه ومن ذلك وقف جماعة من الصحابة منهم علي وأبو بكر والزبير‏.‏ وسعيد وعمرو بن العاص‏.‏ وحكيم بن حزام وأنس وزيد بن ثابت روى ذلك كله البيهقي ومنه أيضا وقف عثمان لبئر رومة ما في حديث الباب‏.‏

ـ واحتج ـ لأبي حنيفة ومن معه بما أخرجه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس ‏(‏إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لما نزلت آية الفرائض لا حبس بعد سورة النساء‏)‏ ويجاب عنه بأن في إسناده ابن لهيعة ولا يحتج بمثله ويجاب أيضا بأن المراد بالحبس المذكور توقيف المال عن وارثه وعدم إطلاقه إلى يده وقد أشار إلى مثل ذلك في النهاية‏.‏ وقال في البحر أراد حبس الجاهلية للسائبة والوصيلة والحام سلمنا فليس في أية ميراث منع الوقف لافتراقهما انتهى‏.‏ وأيضا لو فرض أن المراد بحديث ابن عباس الحبس الشامل للوقف لكونه نكرة في سياق النفي لكان مخصصا بالأحاديث المذكورة في الباب‏.‏

واحتج لهم أيضا على عدم لزوم حكم الوقف بما رواه الطحاوي وابن عبد البر عن الزهري ‏(‏أن عمر قال لولا أني ذكرت صدقتي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لرددتها وهو يشعر بأن الوقف لا يمتنع الرجوع عنه وأن الذي منع عمر من الرجوع كونه ذكره للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فكره أن يفارقه على أمر ثم يخالفه إلى غيره ويجاب عنه بأنه لاحجة في أقوال الصحابة وأفعالهم الا إذا وقع الإجماع منهم ولم يقع ههنا وأيضا هذا الأثر منقطع لان الزهري لم يدرك عمر فالحق أن الوقف من القربات التي لا يجوز نقضها بعد فعلها لا للواقف ولا لغيره وقد حكى في البحر عن محمد وابن أبي ليلى أن الوقف لا ينفذ الا بعد القبض وإلا فللواقف الرجوع لأنه صدقة ومن شرطها القبض ويجاب بانه بعد التحبيس قد تعذر الرجوع والحاقه بالصدقة الحلق مع الفارق‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏من يشتري بئر رومة‏)‏ بضم الراء وسكون الواو‏.‏ وفي رواية للبغوي في الصحابة من طريق بشر بن الأسلمي عن أبيه أنها كانت للرجل من بني غفار عين يقال لها رومة وكان يبيع منها القرية بمد فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تبيعنيها بعين في الجنة فقال يا رسول اللّه ليس لي ولا لعيالي غيرها فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمس وثلاثين ألف درهم ثم أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال أتجعل لي ما جعلت له قال نعم قال قد جعلتها للمسلمين‏.‏ وللنسائي من طريق الأحنف عن عثمان قال اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك وزاد أيضا في رواية من هذه الطريق أن عثمان قال ذلك وهو محصور وصدقه جماعة منهم علي ابن أبي طالب عليه السلام وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏فيجعل فيها دلو مع دلاء المسلمين‏)‏ فيه دليل على أنه يجوز للواقف أن يجعل لنفسه نصيبا من الوقف ويؤيده جعل عمر لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف وظاهره عدم الفرق بين أن يكون هو الناظر أو غيره‏.‏ قال في الفتح ويستنبط منه صحة الوقف على النفس وهو قول ابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد في الأرجح عنه وقال به ابن شعبان من المالكية وجمهورهم على المنع الا إذا استثنى لنفسه شيئا يسيرا بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته‏.‏ ومن الشافعية ابن سريج وطائفة وصنف فيه محمد بن عبد اللّه الأنصاري شيخ البخاري جزءا ضخما واستدل له بقصة عمر هذه وبقصة راكب البدنة وبحديث أنس في أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها‏.‏ ووجه الاستدلال به أنه أخرجها عن ملكه بالعتق وردها إليه بالشرط اه وقد حكى في البحر جواز الوقف على النفس عن العترة وابن شبرمة والزبيري وابن الصباغ وعن الشافعي ومحمد والناصر أنه لا يصح الوقف على النفس قالوا لانه تمليك فلا يصح أن يتملكه لنفسه من نفسه كالبيع والهبة ولقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏سبل الثمرة‏)‏ وتسبيل الثمرة تمليكها للغير‏.‏ وقال في الفتح وتعقب بأن امتناع ذلك غير مستحيل ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم الفائدة والفائدة في الوقف حاصلة لأن استحقاقه اياه ملكا غير استحقاقه أياه وقفا اه‏.‏ ويؤيد صحة الوقف على النفس حديث الرجل الذي ‏(‏قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عندي دينار فقال تصدق به على نفسك‏)‏ أخرجه أبو داود والنسائي وأيضا المقصود من الوقف تحصيل القربة وهي حاصلة بالصرف إلى النفس‏.‏

 باب وقف المشاع والمنقول

1 - وعن ابن عمر قال ‏(‏قال عمر للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إن المائة السهم التي لي بخيبر لم أصب مالا قط أعجب الي منها قد اردت أن اتصدق بها فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم احبس أصلها وسبل ثمرتها‏)‏‏.‏

رواه النسائي وابن ماجه‏.‏

2 - وعن أبي هريرة قال ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا واحتسابا فإن شبعه وروثه وبوله في ميزان يوم القيامة حسنات‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري‏.‏

3 - وعن ابن عباس ‏(‏قال أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها احجني مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال ما عندي ما أحجك عليه قالت احجني على جملك فلان قال ذلك حبيس في سبيل اللّه فأتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فسأله فقال أما انك لو أحججتها عليه كان في سبيل اللّه‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏ وقد صح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال في حق خالد ‏(‏قد احتبس أدراعه واعتاده في سبيل اللّه‏)‏‏.‏

حديث ابن عمر أخرجه أيضا الشافعي ورجال إسناده ثقات وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة كما تقدم وله طرق عند الشيخين‏.‏ وحديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه وأخرجه أيضا البخاري والنسائي مختصرا وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وقد تقدم نحوه من حديث أم معقل الأسدية في باب الصرف في سبيل اللّه وابن السبيل من كتاب الزكاة‏.‏ وحديث تحبيس خالد لا دراعه واعتاده قد تقدم أيضا في الباب ما جاء في تعجيل الزكاة من كتاب الزكاة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏إن المائة السهم‏)‏ الخ استدل المصنف بهذا الحديث على صحة وقف المشاع وقد حكى ذلك في البحر عن الهادي والقاسم والناصر والشافعي وأبي يوسف ومالك واحتج لهم بأن عمر وقف مائة سهم بخيبر ولم تكن مقسومة‏.‏ وحكى في البحر أيضا عن الأمام يحيى ومحمد أنه لا يصح وقف المشاع لأن من شرطه التعيين وحكى أيضا عن المؤيد باللّه أنه يصح فيما قسمته مهايأة لا في غيره لتأديته إلى منع القسمة أو بيع الوقف‏.‏ وعن أبي طالب يصح فيما قسمته افراز كالأرض المستوية وإلا فلا‏.‏ وأوضح ما أحتج به من منع من وقف المشاع إن كل جزء من المشترك محكوم عليه بالمملوكية للشريكين فيلزم مع وقف أحد الشريكين أن يحكم عليه بحكمين مختلفين متضادين مثل صحة البيع بالنسبة إلى كونه مملوكا وعدم الصحة بالنسبة إلى كونه موقوفا فيتصف كل جزء بالصحة وعدمها ويتصف بذلك الجملة وأجاب صاحب المنار عن هذا بأنه نظير العتق المشاع وقد صح ذلك هناك كحديث الستة الا عبد كما صح هنا وإذا صح من جهة الشارع بطل هذا الاستدلال‏.‏ وقد استدل البخاري على صحة وقف المشاع بحديث أنس في قصة بناء المسجد وإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ‏(‏ثامنوني حائطكم فقالوا لانطلب ثمنه إلا الي اللّه عز وجل‏)‏ وهذا ظاهر في جواز وقف المشاع ولو كان غير جائز لانكر عليه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قولهم هذا وبين لهم الحكم‏.‏ وحكى ابن المنير عن مالك أنه لا يجوز وقف المشاع إذا كان الواقف واحدا لأنه يدخل الضرر على شريكه‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏من احتبس فرسا‏)‏ الخ فيه دليل على أنه يجوز وقف الحيوان وإليه ذهب العترة والشافعي والجمهور‏.‏ وقال أبو حنيفة لا يصح لعدم دوامه‏.‏ وقال محمد لا يصح في الخيل فقط إذ هي معروضة للتلف‏.‏ وحديث الباب يرد عليهما‏.‏ ويؤيد الصحة حديث عمر بن الخطاب المتقدم في باب النهي المتصدق أن يشتري ما تصدق به من كتاب الزكاة فإن فيه أن عمر حمل على فرس في سبيل اللّه واطلع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على ذلك وقرره ونهاه عن شرائه برخص وقد ترجم عليه البخاري في كتاب الوقف باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت ومن أدلة الصحة حديث ابن عباس المذكور وحديث تحبيس خالد يدل على جواز وقف المنقولات وقد تقدم الكلام عليه‏.‏

 باب من وقف أو تصدق على أقربائه أو وصى لهم من دخل فيه

1 - عن أنس ‏(‏أن أبا طلحة قال يا رسول اللّه يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وأنها صدقة للّه أرجو برها وذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه أرك اللّه فقال بخ بخ ذلك مال رابح مرتين وقد سمت أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة أفعل يا رسول اللّه فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وفي رواية ‏(‏لما نزلت هذه الآية لو تنالوا البر قال أبو طلحة يا رسول اللّه أرى لبنا يسألنا من أموالنا فاشهدك أني جعلت أرضي بير حاء للّه فقال أجعلها في قرابتك قال فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب‏)‏ رواه أحمد ومسلم‏:‏ وللبخاري معناه وقال فيه ‏(‏اجعلها لفقراء قرابتك‏)‏ قال محمد بن عبد اللّه الأنصاري أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى حرام وهو الأب الثالث وأبي بن كعب بن قيس بن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك ابن النجار فعمر ويجمع حسانا وأبا طلحة وأبيا وبين أبي وأبي طلحة ستة أباء‏.‏

2 - وعن أبي هريرة قال ‏(‏لما نزلت هذه الآية وأنذر عشيرتك الأقربين دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بين عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسكي من النار فأني لا أملك لكم من اللّه شيئا غير أن لكم رحما سابلها بيلالها‏)‏‏.‏

متفق عليه ولفظه لمسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بيرحاء‏)‏ بفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الراء وبالمهملة والمد وجاء في ضبطه أوجه كثيرة جمعها ابن الأثير في النهاية فقال ويروي بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمان لغات‏.‏ وفي رواية حماد بن سلمة بريحا بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية وهي عند مسلم ورجح هذه صاحب الفائق وقال هي وزن فعيلة من البراح وهي الأرض الظاهرة المنكشفة وعند أبي داود باريحا وهو بإشباع الموحدة والباقي مثله ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة فإن أريحا من الأرض المقدسة‏.‏ قال الباجي أفصحها بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الراء مقصورا وكذا جزم به الصغاني‏.‏ وقال الباجي أيضا أدركت أهل العلم ومنهم أبو ذر يفتحون الراء في كل حال قال الصوري وكذا الباء الموحدة‏.‏ قوله ‏(‏بخ بخ‏)‏ كلاهما بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد ينون مع التثقيل أو التخفيف بالكسر وبالرفع لغات‏.‏ قال في الفتح وإذا كررت فالأختيار أن تنون وتسكن الثانية وقد يسكنان جميعا كما قال الشاعر بخ بخ لوالده وللمولد‏.‏ ومعناهما تفخيم الأمر والأعجاب به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رابح‏)‏ شك القعنبي هل هو بالتحتانية أو بالموحدة ورواه البخاري عنه بالشك‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏في الأقربين‏)‏ اختلف العلماء في الأقارب فقال أبو حنيفة القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الام‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو أم من غير تفصيل زاد زفر ويقدم من قرب وهو رواية عن أبي حنيفة وأقل من يدفع له ثلاثة وعند محمد أثنان وعند أبي يوسف واحد ولا يصرف للأغنياء عندهم الا أن شرط ذلك‏.‏ وقالت الشافعية القريب من اجتمع في النسب سواء قرب أم بعد مسلما كان أو كافرا غنيا أو فقيرا ذكرا أو أنثى وارثا أو غير وارث محرما أو غير محرم واختلفوا في الأصول والفروع على وجهين وقالوا إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا‏.‏ وقيل يقتصل على ثلاثة وان كانوا غير محصورين فنقل الطحاوي الأتفاق على البطلان‏.‏ قال الحافظ وفيه نظر لأن عند الشاعفية وجها بالجواز ويصرف منهم لثلاثة ولا يجب التسوية وقال أحمد في القرابة كالشافعي الا أنه أخرج الكافر وفي رواية عنه القرابة كل من جمعه والموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه‏.‏ وقال مالك يختص بالعصبة سواء كان يرثه أولا ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا ثم يعطي الأغنياء هكذا في لافتح‏.‏ وحكى في البحر عن مالك أن ذلك يختص بالوارث وعند الهادوية إن القرابة والأقارب إن ولده جدا أبو الواقف واحتجوا بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جعل سهم ذوي القربى لبني هاشم وهاشم جد أبيه عبد اللّه وهذا ظاهر في جد الأب وأما جد الأم فلا بل هو يدل على خلاف المدعي من هذه الحيثية إذ لم يصرف النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من ينسب إلى جد أمه وأجاب صاحب شرح الاثمار ان خروج من ينتسب إلى جد الأم هنا مخصص من عموم الآية والعموم يصح تخصيصه فلا يلزم إذا خص ههنا أن يخرجوا حيث لم يخص‏.‏ وقد استدل ايضا على خروج من ينتسب إلى جد الأم بأنهم ليسوا بقرابة لأن القرابة العشيرة والعصبة وليس من كان من قبل الأم بعصبة ولا عشيرة وإن كانوا أرحاما وأصهارا ولهذا قال في البحر وقرابتي أو ذو وأرحامي لمن ولده جد أبيه ما تناسلوا لصرفه صلى اللّه عليه وآله وسلم سهم ذوي القربى في الهاشميين والمطلبيين وعلل إعطاء المطلبييين بعدم الفرقة لا القرب وهو الظاهر كما وقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم التصريح بذلك لما سأله بعض بني عبد شمس عن تخصيص المطلبيين بالعطاء دونهم فقال إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام‏.‏

ولو كان الصرف إليهم لقرابتي فقط لكان حكمهم وحكم بني عبد شمس واحدا لأنهم متحدون في القرب إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏أفعل‏)‏ بضم اللام على أنه قول أبي طلحة قوله‏:‏ ‏(‏فقسمها أبو طلحة‏)‏ فيه تعيين أحد الاحتمالين في لفظ أفعل فإنه احتمل أن يكون فاعله أبو طلحة كما تقدم واحتمل أن يكون صيغة أمر وانتفى هذا الاحتمال الثاني بهذه الرواية وذكر ابن عبد البر ان إسماعيل القاضي رواه عن القعنبي عن مالك فقال في روايتة فقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في أقاربه وبني عمه أي في أقارب أبي طلحة وبني عمه‏.‏ قال ابن البر اضافة القسم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإن كان شائعا في لسان العرب على معنى أنه الآمر به لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك والصواب رواية من قال ابن عبد البر اضافة القسم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإن كان شائعا في لسان العرب على معنى أنه الآمر به لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك والصواب رواية من قال فقسمها أبو طلحة‏.‏ قوله ‏(‏في أقاربه وبني عمه‏)‏ في الرواية الثانية فجعلها في حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب وقد تمسك به من قال أقل من يعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان وفي نظر لأنه وقع في رواية للبخراي فجعلها أبو طحلة في ذوى رحمه وكان منهم حسان وأبيّ بن كعب فدل ذلك على أنه أعطى غيرهما معهما وفي مرسل أبي بكر بن حزم فرده على أقاربه أبيّ بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن اوس ونبيط بن جابر فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏ابن حرام‏)‏ بالمهملتين‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏ابن زيد مناة‏)‏ هو بالإضافة قوله‏:‏ ‏(‏وبين أبي وأبي طلحة ستة آباء‏)‏ قال في الفتح هو ملبس مشكل وشرع الدمياطي في بيانه ويغني عن ذلك ما وقع في رواية المستملي حيث قال عقب ذلك وأبي بن كعب هو ابن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار فعمرو بن مالك يجمع حسانا وأبا طلحة وأبيا اه وفي قصة أبي طلحة هذه فوائد منها إن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه ـ ـ واستدل ـ به الجمهور على أن من أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى اللّه الوصي أنها تصح ويفرقه الوصي في سبيل الخير ولا يأكل منه شيئا ولا يعطى منه وارثا للميت وخالف في ذلك أبو ثور‏.‏ وفيه جواز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به‏.‏ وقال لسعد بن أبي وقاص في مرضه الثلث كثير‏.‏ وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم‏.‏ وفيه جواز اضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم ولانقص عليه في ذلك‏.‏ وقد أخبر اللّه تعالى عنه الأنسان أنه لحب الخير الشديد والخير هنا المال اتفاقا كما قال صاحب الفتح‏.‏ وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ تناول ذلك لجميع أفراده فلم يقف حتى يرد عليه اللبيان عن شيء بعينه بل بادر إلى اتفاق ما يحبه فأقره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على ذلك‏.‏

وفيه جواز تولى المتصدق لقسم صدقته‏.‏ وفيه جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصلت له بغير مسألة واستدل على مشروعية الحبس والوقف‏.‏ قال الحافظ ولا حجة فيه لاحتمال أن تكون صدقة أبي طلحة صدقة تمليك قال وهو ظاهر سياق الماجشون عن إسحاق يعني في رواية البخاري وفيه أنه لا يجب الاستيعاب لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبو طلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيرا‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏فعم وخص‏)‏ أي جاء بالعام أولا فنادى بني كعب ثم خص بعض البطون فنادى بني مرة بن كعب وهم بطن من بني كعب ثم كذلك‏.‏ وفيه دليل على أن جميع من ناداهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يطلق عليه لفظ الأقربين لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فعل ذلك ممتثلا لقوله تعالى ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ واستدل به أيضا على دخول النساء في الأقارب لعموم اللفظ ولذكره صلى اللّه عليه وآله وسلم فاطمة‏.‏ وفي رواية للبخاري من حديث أبي هريرة هذا أيضا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذكر عمته صفية‏.‏ واستدل به أيضا على دخول الفروع وعلى عدم التخصيص بمن يرث ولا بمن كان مسلما‏.‏ قال في الفتح ويحتمل أن يكون لفظ الأقربين صفة لازمة للعشيرة والمراد قومه وهم قريش‏.‏ وقد روى ابن مردويه من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذكر قريشا فقال وأنذر عشيرتك الأقربين يعني قومه وعلى هذا فيكون قد أمر بإنذار قومه فلا يختص بالأقرب منهم دون الأبعد فلا حجة فيه في مسألة الوقف لأن صورتها ما إذا وقف على قرابته أو على أقرب الناس إليه مثلا والآية تتعلق بإنذار العشيرة‏:‏ وقال ابن المنير لعله كان هنالك قرينة فهم بها صلى اللّه عليه وآله وسلم تعميمي الإنذار ولذلك عمهم اه ويحتمل أن يكون أولا خص اتباعا لظاهر القرابة لما عنده من الدليل على التعميم لكونه أرسل إلى الناس كافة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏سأبلها ببلاها‏)‏ بكسر الباء قال في القاموس بل رحمه بلا وبلابا بالكسر وصلها وكقطام اسم لصلة الرحم اه‏.‏

 باب أن الوقف على الولد يدخل فيه ولد الولد بالقرينة لا بالطلاق

1 - عن أنس قال ‏(‏بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهي تبكي وقالت قالت لي حفصة أنت ابنة يهودي فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم انك لابنة نبي وإن عمك لنبي وانك لتحت نبي فبم تفتخر عليك ثم قال اتقي اللّه يا حفصة‏)‏‏.‏

رواه أحمد والترمذي وصححه‏.‏

2 - وعن أبي بكرة ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صعد المنبر فقال ان ابني هذا سيد يصلح اللّه على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين يعني الحسن بن علي‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري والترمذي‏.‏

3 - وفي حديث عن أسامة بن زيد ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لعلي وأما أنت يا علي فختني وأبو ولدي‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

4 - وعن أسامة بن زيد ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال وحسن وحسين على وريه هذان ابناي وابنا ابنتي اللّهم أني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما‏)‏‏.‏

رواه الترمذي‏.‏ وقال حديث حسن غريب‏.‏

5 - وعن البراء عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏أنا النبي لا كذب‏.‏ أنا ابن عبد المطلب‏)‏‏.‏

وهو في حديث متفق عليه‏.‏

6 - وعن زيد بن أرقم قال ‏(‏سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول اللّهم أغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري‏.‏ وفي لفظ ‏(‏أغفر للأنصار ولذرارى الأنصار ولذرارى ذراريهم‏)‏‏.‏ رواه الترمذي وصححه‏.‏

حديث أنس أخرجه أيضا النسائي‏.‏ وحديث أسامة بن زيد الأول قد ورد في معنى المقصود منه أحاديث‏.‏ منها عن عمر بن الخطاب رفعه عند الطبراني بلفظ ‏(‏كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأني أنا أبوهم وعصبتهم‏)‏ وعن ابن عباس عند الخطيب بنحوه‏.‏ وعن جابر عند الطبراني في الكبير بنحوه أيضا قال السخاوي في رسالته الموسومة بالإسعاف بالجواب على مسألة الإشراف بعد أن ساق حديث جابر بلفظ ‏(‏إن اللّه جعل ذرية كل نبي في صلبه وإن اللّه جعل ذريتي في صلب علي ابن أبي طالب‏)‏ ما لفظه وقد كنت سئلت عن هذا الحديث وبسطت الكلام عليه وبينت أنه صالح للحجة وباللّه التوفيق اه وفي الميزان في حرف العين منه في ترجمة عبد الرحمن بن محمد الحاسب ما لفظه لا يدري من ذا وخبره مكذب وروي الخطيب من طريق عبد اللّه بن عبد الرحمن بن محمد عن أبيه عن خزيمة بن حازم حدثني المنصور يعني الدوانيقي حدثني أبي عند أبيه على عن جده قال ‏(‏كنت أنا وأبي العباس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ دخل على فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للّه أشد حبا لهذا مني إن اللّه جعل ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي في صلب علي‏)‏ اه وذكر في الميزان أيضا في ترجمة عثمان بن أبي شيبة أحاديث عنه من جملتها حديث ‏(‏لكل بني أب عصبة ينتمون إليه الا ولد فاطمة أنا عصبتهم‏)‏ ثم حكى عن العقيلي بعد أن ساق هذا الحديث وغيره أنه قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل أنكر أبي هذه الأحاديث أنكرها جدا وقال هذه موضوعة مع أحاديث من هذا النحو‏.‏ قال الذهبي بعد ذلك قلت عثمان بن أبي شيبة لا يحتاج إلى متابع ولا ينكر له أني نفرد بأحاديث لسعة ما روي وقد يغلط‏.‏ وقد اعتمده الشيخان في صحيحهما اه وحديث أسامة الآخر أخرج نحوه الترمذي أيضا من حديث البراء بدون قوله هذان ابناء ولفظه ‏(‏إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أبصر حسنا وحسينا فقال اللّهم أني أحبها فأحبهما‏)‏ وأخرجه أيضا الشيخان من حديثه بلفظ ‏(‏رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والحسن على عاتقه يقول اللّهم أني أحبه فأحبه‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏انك لابنة نبي‏)‏ إنما قال لها ذلك لأنها من ذرية هرون وعمها موسى وبنو قريظة من ذرية هرون فسمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هرون أبا لها وبينها وبينه آباء متعددون وكذلك جعل الحسن ابنا له وهو ابن ابنته وكذلك الحسين كما في سائر الأحاديث ووصف نفسه بأنه ابن عبد المطلب وهو جده وجعل الأنصار حكم الأنصار كله يدل على أن حكم أولاد الأولاد حكم الأولاد فمن وقف على خلاف ومما يؤيد القول بدخول أولاد البنات ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ابن أخت القوم منهم‏)‏ وللأحاديث المذكورة في الباب فوائد خارجة عن مقصود المصنف من ذكرها في هذا الباب والتعرض لذلك يستدعي بسطا طولا لفتقتصر على بيان المطلوب منها ههنا‏.‏

 باب ما يصنع بفاضل مال الكعبة

1 - عن أبي وائل قال ‏(‏جلست إلى شيبة في هذا المسجد فقال جلس إلى عمر في مجلسك هذا فقال لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء الا قسمتها بين المسلمين ما أنت بفاعل قال لم قلت لم يفعله صاحباك فقال هما المرآن يقتدي بهما‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاريز

2 - وعن عائشة قالت ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال بكفر لانفقت كنز الكعبة في سبيل اللّه ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر‏)‏‏.‏

رواه مسلم‏.‏

قول ‏(‏جلست إلى شيبة‏)‏ هو ابن عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد اللّه بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة نسبة إلى حجابة الكعبة‏.‏ قوله ‏(‏فيها‏)‏ أي في الكعبة والمراد بالصفراء الذهب والبيضاء الفضة قال القرطبي غلط من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة وإنما أراد الكنز الذي بها وهو ما كان يهدي إليها فيدخر ما يزيد عن الحاجة وأما الحلى فمحبسة عليها كالقناديل فلا يجوز صرفها في غيرها‏.‏ قال ابن الجوزي كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال تعظيما لها فيجتمع فيها‏.‏ قوله ‏(‏هما المرآن‏)‏ تثنية مرء بفتح الميم ويجوز ضمها والراء ساكنة على كل حال بعدها همزة أي الرجلان قوله يقتدي بهما في رواية للبخاري أقتدي بها قال ابن بطال أراد عمر بذلك لكثرة انفاقه في منافع المسلمين ثم لما ذكر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يتعرض له أمسك وإنما ترك ذلك لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف فلا يجوز تغييره عن وجهه وفي ذلك تعظيم للإسلام وترهيب للعدو‏.‏ قال في الفتح أما التعليل الأول فليس بظاهر من الحديث بل يحتمل أن يكون تركه صلى اللّه عليه وآله وسلم رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ثم أيد هذا الاحتمال بحديث عائشة المذكور في الباب ثم قال فهذا هو التعليل المعتمد اه والمصير إلى هذا الاحتمال لا بد منه لنصه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليه فلا يلتفت إلى الاحتمالات المخالفة له وعلى هذا فإنفاقه جائز كما جاز لابن الربير بناء البيت على قواعد إبراهيم لزوال السبب الذي لأجله ترك بناءه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏ واستدل التقي السبكي بحديث أبي وائل هذا على جواز تحلية الكعبة بالذهب والفضة وتعليق قناديلهما فيها وفي مسجد المدينة فقال هذا الحديث عمدة في مال الكعبة وهو ما يهدي إليها أو ينذر لها قال وأما قول الشافعي لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة ولا تعليق قناديلهما فيها ثم حكى وجهين في ذلك أحدهما الجواز تعظيما كما في المصحف والآخر المنع إذ لم يقل أحد من السلف به فهذا مشكل لأن للكعبة من التعظيم ما لليس لبقية المساجد بدليل تجويز سترها بالحرير والديباج وفي جواز ستر المساجد بذلك خلاف ثم تمسك للجواز بما وقع في أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي قال ولم ينكر ذلك عمر ابن عبد العزيز ولا أزاله في خلافته ثم استدل للجواز بأن تحريم استعمال الذهب والفضة إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للأكل والشرب ونحوهما قال وليس في تحلية المساجد بالقناديل الذهب شيء من ذلك ويجاب عنه بأن حديث أبي وائل لا يصلح للاستدلال به على جواز تحلية الكعبة وتعليق القناديل من الذهب والفضة كما زعم لأنه إن أراد أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اطلع على ذلك وقرره فقد عرفت الحامل له صلى اللّه عليه وآله وسلم على ذلك وإن أراد الإجماع من الصحابة أو ممن بعدهم عليه فممنوع وإن أراد غير ذلك فما هو‏.‏ وأما القياس على ستر الكعبة بالحرير والديباج فقد تعقب بأن تجويز ذلك قام الإجماع عليه وأما التحلية بالذهب والفضة فلم ينقل عن فعل من يقتدي به كما قال في الفتح وفعل الوليد وترك عمر بن عبد العزيز لا حجة فيهما نعم القول بالتحريم يحتاج إلى دليل ولا سيما مع ما قدمنا من اختصاص تحريم استعمال آنية الذهب والفضة بالأكل والشرب ولكن لا أقل من الكراهة فإن وضع الأموال التي ينتفع بها أهل الحاجات في المواضع التي لا ينفع الوضع فيها آجلا ولا عاجلا مما لا شك في كراهته‏.‏

 كتاب الوصايا

 باب الحث على الوصية والنهي عن الحيف فيها وفضيلة التنجيز حال الحياة

1 - عن ابن عمر ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه الا ووصيته مكتوبة عند رأسه‏)‏‏.‏

رواه الجماعة واحتج به من يعمل بالخط إذا عرف‏.‏

قوله ‏(‏كتاب الوصايا‏)‏ قال في الفتح الوصايا جمع وصية كالهدايا وتطلق على فعل الموصى وعلى ما يوصى به من مال أو غيره من عهد ونحوه فتكون بمعنى المصدر وهو الأيصاء وتكون بمعنى المفعول وهو الأسم‏.‏ وهي في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت قال الأزهري الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أصيه إذا وصلته وسميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته ويقال وصية بالتشديد ووصاة بالتخفيف بغير همز وتطلق شرعا أيضا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏ما حقط ما نافية بمعنى ليس والخبر ما بعد إلا‏.‏ وروى الشافعي عن سفيان بلفظ ‏(‏ما حق امرئ يؤمن بالوصية‏)‏ الحديث أي يؤمن بأنها حق كما حكاه ابن عبد البر عن ابن عيينة وروراه ابن عبد البر والطحاوي بلفظ ‏(‏لا يحل لامرئ مسلم له مال‏)‏ وقال الشافعي معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم الا أن تكون وصيته مكتوبة عند وكذا قال الخطابي‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏مسلم‏)‏ قال في الفتح هذا الوصف خرج مخرج العالب فلا مفهوم له او ذكر للتهييج لتقع المبادرة إلى الأمتثال لما يشعر به من نفي الإسلام عن ترك ذلك ووصية الكافر جائزة في الجملة وحكى ابن المنذر فيه الإجماع قوله‏:‏ يبيت صفة لمسلم كما جزم به الطيبي‏.‏ قوله ‏(‏ليلتين‏)‏ في رواية للبيهقي وأبي عوانة ليلة أو ليلتين‏.‏ لمسلم والنسائي ثلاث ليال‏.‏ قال الحافظ وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا للتحديد والمعنى لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلا الا ووصيته مكتوبه وفيه اشارة إلى اغتفار الزمن اليسير وكأن الثلاث غاية التأخير ولذلك قال ابن عمر لم أبت ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول ذلك الا ووصيتي عندي‏.‏ قال الطيبي في تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة أي لا ينبغي أن يبيت زمنا ما وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك‏.‏ قال العلماء لا يندب أن يكتب جميع الأشياء المحقرة ولاما جرت العادة بالخروج منه والوفاء به عن قرب‏.‏

ـ وقد استدل ـ بهذا الحديث مع قوله تعالى ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت‏}‏ الآية على وجوب الوصية وبه قال جماعة من السلف منهم عطاء والزهري وأبو مجلز وطلحة بن مصرف في آخرين وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال إسحاق وداود وأبو عوانة الأسفرايني وابن جرير‏.‏ قال في الفتح وآخرون وذهب الجمهور إلى أنها مندوبة وليست بواجبة ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع وهي مجازفة لما عرفت‏.‏ وأجاب الجمهور عن الآية بأنها منسوخة كما في البخاري عن ابن عباس قال ‏(‏كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ اللّه من ذلك ما أحب فجعل لكل واحد من الأبوين السدس‏.‏ وأجاب القائلون بالوجوب بأن الذي نسخ الوصية للوالدين والأقارب الذي يرثون وأما من لا يرث فليس في الآية ولا في تفسير ابن عباس ما يقتضي النسخ في حقه وأجاب من قال بعدم الوجوب عن الحديث بأن قوله ‏(‏ما حق‏)‏ الخ للحزم والأحتياط لأنه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصية‏.‏ وقيل الحق لغة الشيء الثابت ويطلق شرعا على ما يثبت به الحكم وهو أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا وقد يطلق على المباح قليلا قاله القرطبي‏.‏

وأيضا تفويض الأمر إلى أرادة الموصي يدل على عدم الوجوب ولكنه يبقى الأشكال في الرواية المتقدمة بلفظ ‏(‏لا يحل لامرئ مسلم‏)‏ وقد قيل أنه يحتمل ان روايها ذكرها بالمعنى وأراد ينفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وقد اختلف القائلون بالوجوب فقال أكثرهم تجب الوصية في الجملة وقال طاوس وقتادة وجابر بن زيد في آخرين تجب للقرابة الذي لا يرثون خاصة‏.‏ وقال أبو ثور وجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه ان لم يوص به كالوديعة والدين ونحوهما قال ويدل على ذلك تقييده بقوله ‏(‏له شيء يريد أن يوصي فيه‏)‏ قال في الفتح وحاصله يرجع إلى قول الجمهور ان الوصية غير واجبة بعينها وإنما الواجب بعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير سواء كان بتنجيز أو وصية ومحل وجوب الوصية إنما هو إذا كان عاجزا عن تنجيزه ولم يعلم بذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادة فأما إذا كان قادرا أو علم بها غيره فلا وجوب قال وعرف من مجموع ما ذكرنا ان الوصية قد تكون واجبة وقد تكون مندوبة فيمن رجامتها كثرة الأجر ومكروهة في عكسه ومباحة فيمن استوى الأمران فيه ومحرمة فيما إذا كان فيها اضرار كما ثبت عن ابن عباس ‏(‏الأضرار في الوصية من الكبائر‏)‏ رواه سعيد بن منصور موقوفا بإسناد صحيح ورواه النسائي مرفوعا ورجاله ثقات‏.‏ قد استدل من قال بعدم وجوب الوصية بما ثبت في البخاري وغيره عن عائشة أنها انكرت أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أوصى وقالت متى أوصى وقد مات بين سحري ونحري وكذلك ما ثبت أيضا في البخاري عن ابن أبي أوفى أنه قال ‏(‏ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يوص‏)‏ وأخرج أحمد وابن ماجه قال الحافظ بسند قوي عن ابن عباس في أثناء حديث فيه أمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس قال في آخره مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يوص قالوا ولو كانت الوصية واجبة لما تركها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأجيب بأن المراد بنفي الوصية منه صلى اللّه عليه وآله وسلم نفي الوصية بالخلافة لا مطلقا بدليل أنه قد ثبت عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعدة أمور كأمره صلى اللّه عليه وآله وسلم في مرضه لعائشة بانفاق الذهيبة كما ثبت من حديثها عند أحمد وابن سعد وابن خزيمة‏.‏ وفي المغازي لابن إسحاق عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة قال لم يوص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند موته الا بثلاث لكل من الداريين والرهاويين والأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر وان لا يترك في جزيرة العرب دينان وأن ينفذ بعث أسامة‏.‏ وفي صحيحي مسلم عن ابن عباس وأوصى بثلاث أن يجيزوا الوفد بنحوما كنت أجيزهم الحديث‏.‏ وأخرج أحمد والنسائي وابن سعد عن أنس ‏(‏كانت غاية وصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم‏)‏ وله شاهد من حديث علي عند أبي داود وابن ماجه‏.‏ ومن حديث أم سلمة عند النسائي بسند جيد

والأحاديث في هذا الباب كثيرة أورد منها صاحب الفتح في كتاب الوصايا شطرا صالحا وقد جمعت في ذلك رسالة مستقلة‏.‏

ـ واستدلوا ـ أيضا على توجيه نفي من نفي الوصية مطلقا إلى الخلافة بما في البخاري عن عمر ‏(‏قال مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يستخلف‏)‏ وبما أخرجه أحمد والبيهقي عن علي ‏(‏أنه لما ظهر يوم الجمل قال يا أيها الناس إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا‏)‏ الحديث‏.‏ قال القرطبي كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أوصى بالخلافة لعلي فرد ذلك جماعة من الصحابة وكذا من بعدهم فمن ذلك ما استدلت به عائشة يعني الحديث المتقدم‏.‏ ومن ذلك إن عليا لم يدع ذلك لنفسه ولا بعد أن ولى الخلافة ولا ذكره لأحد من الصحابة يوم السقيفة وهؤلاء ينتقصون عليا من حيث قصدوا تعظيمه لأنهم نسبوه مع شجاعته العظمى وصلابته إلى المداهنة والتقييد والأعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك اه ولا يخفى أن نفي عائشة للوصية حال الموت لا يستلزم نفيها في جميع الأوقات فإذا أقام البرهان الصحيح من يدعي الوصاية في شيء معين قبل‏.‏ قوله ‏(‏مكتوبة عند رأسه‏)‏ استدل بهذا على جواز الأعتماد على الكتابة والخط ولو لم يقترن بالشهادة وخص محمد بن نصر من الشافعية ذلك بالوصية لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام‏.‏ قال الحافظ وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به قالوا ومعنى قوله ‏(‏وصيته مكتوبه عنده‏)‏ أي بشرطها‏.‏ وقال المحب الطبري اضمار الأشهاد فيه بعد وأجيب بأنهم استدلوا على اشتراط الاشهاد بأمر خارج كقوله تعالى ‏{‏شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية‏}‏ فإنه يدل على اعتبار الاشهاد في الوصية وقال القرطبي ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها ولو لم تكن مكتوبة اه وقد استوفينا الأدلة على جواز العمل بالخط في الاعتراضات التي كتبناها على رسالة الجلال في الهلال فليراجع ذلك فإنه مفيد‏.‏

2 - وعن أبي هريرة ‏(‏قال جاء رجل فقال يا رسول اللّه أي الصدقة أفضل أو أعظم أجرا قال أما وأبيك لتفتأن أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان‏)‏

رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أي صدقة أفضل أو أعظم‏)‏ في رواية للبخاري أفضل وفي أخرى له أعظم‏.‏ قوله ‏(‏لتفتأن‏)‏ بفتح اللام وضم الفوقية وسكون الفاء وبعدها فوقية أيضا ثم همزة مفتوحة ثم نون مشددة وهو من الفتيا وفي نسخة ‏(‏لتنبأن‏)‏ بضم التاء وفتح النون بعدها ياء موحدة ثم همزة مفتوحة ثم نون مشددة من النبأ‏.‏ قوله ‏(‏أن تصدق‏)‏ بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين وأصله أن تتصدق والتشديد على الأدغام‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏شحيح‏)‏ قال صاحب المنتهى الشح بخل مع حرص‏.‏ وقال صاحب المحكم الشح مثلث الشين والضم أولى‏.‏ وقال صاحب الجامع كأن الفتح في المصدر والضم في الاسم قال الخطابي فيه ان المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه وإن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سمة البخل فلذلك شرط صحة البدن في الشح بالمال لانه في الحالتين يجد للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيحذر معه الفقر‏.‏ قال ابن بطال وغيره لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للأجر بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وتأمل‏)‏ بضم الميم أي تطمع‏.‏

قوله ‏(‏ولا تمهل‏)‏ بالإسكان على أنه نهي وبالرفع على أنه نفي ويجوز النصب‏.‏ قوله ‏(‏حتى إذا بلغت الحلقوم‏)‏ أي قاربت بلوغه إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شيء من تصرفاته والحلقوم مجرى النفس‏.‏ قاله أبو عبيدة‏.‏ قوله ‏(‏قلت لفلان كذا‏)‏ الخ قال في الفتح الظاهر إن هذا المذكور على سبيل المثال‏.‏ وقال الخطابي فلان الأول والثاني الموصي له فلان الأخير الوارث لأنه إن شاء ابطله وإن شاء أجازه‏.‏ وقال غيره يحتمل أن يكون المراد بالجمع من يوصي له وإنما أدخل كان في الثالث اشارة إلى تقدير القدر له بذلك‏.‏ وقال الكرماني يحتمل أن يكون الأول للوارث والثاني الموروث والثالث الموصى له‏.‏ قال الحافظ ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقرارا‏.‏

ـ والحديث يدل ـ على أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في حال الصحة أفضل منه حال المرض لأنه في حال الصحة يصعب عليه اخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزين له من امكان طول العمر والحاجة إلى المال كما قال تعالى ‏{‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء‏}‏ وفي معنى الحديث قول تعالى ‏{‏وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت‏}‏ الآية‏.‏ وفي معناه أيضا ما أخرج الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا‏.‏ قال ‏(‏مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع‏)‏ وأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد مرفوعا ‏(‏لأن يتصدق الرجل في حايته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة‏)‏‏.‏

3 - وعن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ‏(‏ان الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فيجب لهما النار ثم قرأ أبو هريرة من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من اللّه إلى قوله وذلك الفوز العظيم‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والترمذي‏.‏ ولأحمد وابن ماجه معناه وقالا فيه ‏(‏سبعين سنة‏)‏‏.‏

الحديث حسنه الترمذي وفي إسناده شهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة‏.‏ ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ولفظ أحمد وابن ماجه الذي أشار إليه المصنف ‏(‏أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيدخل الجنة‏)‏ وفيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد لأن مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة فلا شك أنها من الذنوب التي لا يقع في مضيقها الا من سبقت له الشقاوة وقراءة أبي هريرة للآية لتأييد معنى الحديث وتقويته لان اللّه سبحانه قد قيد ما شرعه من الوصية بعدم الضرار فتكون الوصية المشتملة على الضرار مخالفة لما شرعه اللّه تعالى وما كان كذلك فهو معصية‏.‏ وقد تقدم قريبا عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا بإسناد صحيح ان وصية الضرار من الكبائر وذلك مما يؤيد معنى الحديث فما أحق وصية الضرار بالابطال من غير فرق بين الثلث وما دونه وما فوقه وقد جمعت في ذلك رسالة مشتملة على فوائد لا يستغني عنها‏.‏